لاشك أن عائشة هي التي
مهدت الطريق لوصول الأمويين إلى الحكم، وذلك عبر إضعافها لعلي وإثارتها
للقلاقل في وجهه من جهة، وعبر تصفية أبرز منافسين لمعاوية في الأمر، الزبير
وطلحة، من جهة أخرى. وبعكس سلوكها في أيام علي، فهي لم تحرك ساكناً في هذه
المرحلة، رغم كلّ جرائم معاوية وفظائعه.
كانت أولى جرائم معاوية
التي مسّت عائشة شخصياً، قتله لأخيها محمد عام 38هـ، أي قبل تسلّمه
الخلافة، بعد حيلة المصاحف في صفين. فقد ولّى عليّ محمداً مصر، فدخلها عام
37هـ؛ لكن معاوية أرسل عمرو بن العاص إلى مصر عام 38هـ، فتغلّب على محمد،
ثم قتله معاوية بن خديج، كما أشرنا، صبراً، وأدخلوا جثته في بطن حمار ميت،
وأحرقوه.
«ولما بلغ ذلك عائشة، جزعت عليه جزعاً شديداً، وقنتت في دبر كلّ صلاة، تدعو
على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن خديج، وقبضت عيال محمد
أخيها إليها، فكان القاسم بن محمد من عيالها... وحلفت عائشة لا تأكل شواء
أبداً بعد قتل محمد، فلم تأكل شواء حتى لحقت بالله، وما عثرت قط حتى قالت:
تعس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن خديج».
حجر بن
عدي:
كان حجر بن عدي متعاطفاً مع علي، وكان ينتقد المغيرة بن
شعبة، عامل معاوية ابن أبي سفيان على الكوفة، الذي أمره أمير مؤمني عصره
بشتم عليّ من فوق المنابر. وجاء بعده زياد بن أبيه الذي لم يكن أقل سوءاً
من سابقه. وتروي الأخبار أن زياداً أطال يوماً الخطبة، وأخّر الصلاة،
فنادى عدي: الصلاة! ولما لم يأبه زياد به وبالناس، ثار الحاضرون. فأُرْسل
حجر بطلب من معاوية إلى الشام. وفي مرج عذراء، تم قتله مع مرافقيه.
تضايقت عائشة من قتل
حجر، لكنها لم تثر لذلك - خاصة وأنها كانت قد تدخلت لمنع هذه الجريمة .
وتروي الأخبار أن عائشة بعثت عبد الرحمن بن الحرث بن هشام إلى معاوية في
حجر وأصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم... وكانت عائشة تقول: لولا أنّا لم نغيّر
شيئاً إلا آلت الأمور إلى أشد مما كنا فيه، لغيّرنا قتل حجر، أما والله إن
كان لمسلماً ما علمته، حاجاً معتمراً.
تقول إحدى الروايات، إن
معاوية أقبل «ومعه خلق كثير من الشام... حتى أتى عائشة أم المؤمنين، فأذنت
له وحده... وعندها مولاها ذكوان؛ فقالت عائشة: أكنتَ تأمن أن أقعد لك رجلاً
فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟ فقال معاوية: ما كنتِ لتفعلي ذلك...
لأني في بيت آمن.. [وتكلّمت عائشة]... فلم يخطب معاوية، وخاف أن لا يبلغ ما
بلغت... ثم قام معاوية، فلما قام، قالت عائشة: يا معاوية، قتلت حجراً
وأصحابه العابدين المجتهدين؟... فقال: دعينا وإياههم حتى نلقى ربّنا... [ثم
أكمل]: تالله إن رأيت كاليوم قط خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله (ص)».
عبد
الرحمن بن أبي بكر:
شقيق عائشة. لم تكن
سمعة هذا الرجل طيبة إسلامياً حتى مراحل متأخرة من تاريخ الدعوة. ويذكر
الزمخشري
أن الآية السبعين من سورة الأنعام، «أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب
من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون»، «نزلت في أبي بكر الصدّيق (رض)، حين
دعاه ابنه، عبد الرحمن، إلى عبادة الأوثان». وفي سيرة
ابن هشام، يقال: «نادى أبو بكر الصدّيق ابنه عبد الرحمن، وهو يومئذ [يوم
بدر] من المشركين، فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن:
لم يبقَ غير مشكة ويعبوب
وصارم يقتل ضلال الشيب».
ويذكر الزمخشري
أيضاً، أن الآية السابعة عشرة من سورة الأحقاف، «والذي قال لوالديه أفٍ
لكما، أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي، وهما يستغيثان الله: ويلك!
آمن إن وعد الله حق! فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين»، «نزلت في عبد
الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى
الإسلام، فأفف بهما، وقال: ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو، وهما
من أجداده، حتى أسألها عمّا يقول محمد».
ولما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد، وكان
مروان عامله على المدينة، «خطب مروان، فقال: إن الله تعال قد أرى أمير
المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وأن يستخلفه؛ فقد استخلف أبو بكر عمر (رض)!
فقال عبد الرحمن بن أبي بكر (رض): أهرقلية؟ إن أبا بكر (رض) - والله - ما
جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا
رحمة وكرامة لولده! فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أفٍ لكما؟ فقال عبد
الرحمن (رض): ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسول الله (ص) أباه؟! وسمعتهما
عائشة (رض)، فقالت: يا مروان! أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ [ونفت أن
يكون كلامه لشقيقها صحيحاً، وأكملت]: ولو شئت أن أسمّي الذي نزلت فيه
لسميته؛ ولكن رسول الله لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة
الله».
وفي نصوص كثيرة نجدها تنفي تهمة التأفف عن شقيقها، وتضيف مقسمة، «والله ما
هو به».
لكن الحقيقة أن كثيراً من التفاسير تخبرنا، كما لاحظنا، أن الذي قال
لوالديه أفاً، هو عبد الرحمن بن أبي بكر تحديداً.
حاول معاوية شراء ضمير
عبد الرحمن بمئة ألف درهم،
فرفض. ومات عبد الرحمن فجأة بموضع شمال مكة، قريب منها.
الحسن
بن علي:
بعدما اشترى معاوية
الحسن بن عليّ بالمال، اشترى إحدى زوجاته، اللواتي يستحيل إحصاؤهن، بالمال
وبوعد زواج من يزيد ابنه إن هي قتلت زوجها. وهذا ما كان - لكنه لم يكمل
وعده بتزويجها من ابنه، خوفاً عليه منها.
يروى أن الحسن، «لما
حضرته الوفاة، أرسل إلى عائشة يطلب منها أن يدفن مع النبي (ص)، فأجابته إلى
ذلك، فقال لأخيه: إذا أنا مت فاطلب إلى عائشة أن أدفن مع النبي (ص)، فلقد
كنت طلبت منها، فأجابت إلى ذلك، فلعلها تستحي مني! فإذا أذنت، فادفني في
بيتها، وما أظن القوم - يعني: بني أمية - إلا سيمنعونك، فإن فعلوا، فلا
تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد! فلما توفي، جاء الحسين إلى عائشة،
فقالت: نعم وكرامة! فبلغ ذلك مروان وبني أمية، فقالوا: لا يدفن هنالك
أبداً. فبلغ ذلك الحسين، فلبس هو ومن معه السلاح، ولبسه مروان. فسمع أبو
هريرة، فقال: والله إنه لظلم - يمنع الحسن أن يدفن مع أبيه، والله إنه لابن
رسول الله (ص)! ثم أتى الحسين، فكلّمه، وناشده الله، وقال: أليس قد قال
أخوك: إن خفت فردني إلى مقبرة المسلمين! ففعل، فحمله إلى البقيع، ولم يشهده
أحد من بني أمية إلا سعيد بن العاص، كان أميراً على المدينة، فقدّمه الحسين
للصلاة عليه».
لكن مراجع أخرى تروي الخبر ذاته بطريقة
مختلفة. ففي روضة الأوائل لابن شـــحنة، بهامش ابن الأثير، يقال:
«كان أوصى أن يدفن عند جده (ص)، فمنعت من ذلك عائشة». وفي مرجع آخر، يقال إن الحسن طلب «عند وفاته: ادفنوني عند
قبر رسول الله (ص)! [فقالت عائشة]: البيت بيتي ولا آذن لأحد أن يدفن فيه...
فدفنوه في البقيع».
وفي رواية ثالثة، يقال:
«ركب مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، فمنعا من ذلك؛ وركبت عائشة بغلة
شهباء، وقالت: بيتي ولا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر،
فقال: يا عمّة! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر؛ أتريدين أن يقال: يوم
البغلة الشهباء؟ فرجعت، واجتمع مع الحسين بن عليّ جماعة من الناس، فقالوا
له: دعنا وآل مروان، فوالله ما هم عندنا إلا كأكلة رأس؛ فقال: إن أخي
أوصاني ألاّ أريق فيه محجمة؛ فدفن الحسين في البقيع».
وورد في مقاتل
الطالبيين،
أنهم «لما أرادوا دفنه، ركبت عائشة بغلاً واستنفرت بني أمية: مروان بن
الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم، وهو القائل: فيوماً على بغل ويوماً على
جمل».
لكن قصة البغلة هذه
تروى أيضاً بطريقة مختلفة؛ يقال: «اقتتل غلمان عبد الله بن عبّاس وغلمان
عائشة، فأخبرت عائشة بذلك، فخرجت في هودج على بغلة لها، فلقيها ابن أبي
عتيق... فقال: ما انقضى عنا يوم الجمل حتى تريدين أن تأتينا بيوم البغلة».
وكان يقال لها:
تجملت تبغلت
|
|
ولو عشت تفيلت
|
لك التسع من
الثمن
|
|
وفي الكل تصرفت
|
وربما كان هنالك...
بغلتان!!!
السكوت
المُشْترى
لقد اشتهر عن عائشة
حبها للمال. ويبدو أن معاوية كان يعرف نقطة ضعف أم المؤمنين هذه جيداً.
وبين أيدينا روايات كثيرة تثبت ذلك. منها، على سبيل المثال، أن معاوية بعث
«إلى عائشة (رض) بطبق من ذهب فيه جوهر، قوّم بمائة ألف».
وأخرج أبو نعيم: «أهدى معاوية لعائشة ثياباً وورقاً وأشياء توضع في
أسطوانة».
وروى عروة «أن معاوية بعث إلى عائشة بمئة ألف».
وقيل: «بعث معاوية إلى عائشة، وهي بمكة، بطوق قيمته مئة ألف، فقبلته».
وقيل: «قضى معاوية عن عائشة، أم المؤمنين، ثمانية عشر ألف دينار، وما كان
عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس».
روي أن المنكدر بن عبد
الله، دخل «على عائشة، فقالت: لك ولد؟ قال: لا! فقالت: لو كان عندي عشرة
آلاف درهم لوهبتها لك! فما أمست حتى بعث إليها معاوية بمال، فقالت: ما أسرع
ما ابتليت! وبعثت إلى المنكدر بعشرة آلاف درهم، فاشترى منها جارية».
أورد بن سعد في
طبقاته، أن «معاوية اشترى من عائشة منزلها... بمائة وثمانين ألف درهم
[أو] بمائتي ألف درهم، وشرط لها سكناها حياتها، وحمل إلى عائشة المال، فما
رامت من حملها حتى قسمته. ويقال: اشتراه ابن الزبير، بعث إليها، يقال: خمسة
أجمال بخت تحمل المال، فشرط لها سكناها حياتها، فما برحت حتى قسمت ذلك،
فقيل لها: لو خبأت لنا منه درهماً! فقالت عائشة: لو ذكرتموني لفعلت».