لا شك
أن علاقة عائشة بعثمان بن عفان، الخليفة الثالث، هي واحدة من أصعب العلاقات -
ظاهرياً - فهماً وأكثرها عصيّاً على التحليل. فالروايات التي تتحدّث عن علاقتها به
في نصف خلافته الأول نادرة. في حين أن الروايات حول تلك العلاقة في نصف خلافته
الثاني كثيفة ومتراكمة - وأحياناً: متناقضة - إلى حدٍّ محرج. مع ذلك، فقليل من
الغوص في أعماق تلك العلاقة يمكن أن يكشف الكثير من خفاياها وتناقضاتها.
النصف الأوّل
من خلافته:
كما سبق وأشرنا، فقد منع عمر بن
الخطّاب نساء النبي عن الحج والعمرة، حتى سنته الأخيرة، حيث حججن معه؛ ولمّا توفي
عمر وولي عثمان، اجتمع نساء النبي - عائشة وأم سلمة وميمونة وأم حبيبة - وأرسلن
إليه يستأذنه في الحج. فقال: قد كان عمر بن الخطاب فعل ما رأيتن، وأنا أحج بكن، فمن
أراد منكن أن تحج، فأنا أحج بها. فجمع بهن عثمان جميعاً، إلا امرأتين: زينب بنت
جحش، توفيت في خلافة عمر، ولم يحج بها عمر، وسودة بنت زمعة، لم تخرج من بيتها بعد
النبي.
يقول ابن قتيبة الدينوري: «كان
عثمان (رض) ست سنين من ولايته، وهو أحبّ إلى الناس من عمر بن الخطاب (رض)،
وكان عمر رجلاً شديداً
قد ضيّق على قريش أنفاسها، لم ينل معه أحد من الدنيا شيئاً، إعظاماً له وإجلالاً،
وتأسيساً به واقتداء، فلما وليهم عثمان، ولى رجل لين...[وكان عثمان يخطب بالقوم،
فيقول]: أيها الناس، اغدوا على أعطياتكم! فيأخذونها وافية؛ اغدوا على كسوتكم!
فيغدون، فيجاء بالكسوة، فتقسم بينهم... يا معشر المسلمين، اغدوا عن السمن
والعسل!... يا معشر المسلمين، اغدوا على الطيب!... فلم يزل المال متوفراً، حتى لقد
بيعت الجارية بوزنها ورقاً، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار، وبيع البعير بألف،
والنخلة الواحدة بألف».
كان عثمان يقارن نفسه بعمر.
ويزعم أن قسوة عمر هي سبب سكوت الناس عنه، في حين أنهم لم يجترأوا على عثمان إلا
للينه: «لقد عبتم عليّ أشياء ونقمتم أموراً قد أقررتم لابن الخطاب مثلها، ولكنه
وقمكم وقمعكم ولم يجترئ أحد يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إليه».
وفي نص آخر: «ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم
أو كرهتم».
في النصف الأول من خلافة عثمان،
كانت عائشة تبث أحاديث في مدحه؛ من ذلك، قولها: «استأذن أبو بكر رسول الله (ص)،
وأنا معه في مرط واحد... فأذن له! فقضى إليه حاجته، وهو معي في المرط، ثم خرج؛ ثم
استأذن عليه عمر، فأذن له، فقضى إليه حاجته على تلك الحال، ثم خرج؛ فاستأذن عليه
عثمان، فأصلح عليه ثيابه وجلس، فقضى إليه حاجته، ثم خرج!... فقلت له: يا رسول الله،
استأذن عليك أبو بكر فقضى إليك حاجته على حالك تلك؛ ثم استاذن عليك عمر فقضى إليك
حاجته على حالك تلك؛ ثم استأذن عليك عثمان فكأنك احتفظت. فقال: إن عثمان رجل حيي،
ولو أذنت له على تلك الحال، خشيت ألا يقضي إلي حاجته».
وفي رواية أخرى أنه قال لعائشة، حين أراد عثمان الدخول عليهما: «اجمعي عليك ثيابك!».
وفي رواية أخرى، نجد عائشة تسأله حين اراد عثمان الدخول عليهما: «يا رسول الله،
استأذن عليك أبو بكر وعمر، فأذنت لهما، وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان، أرخيت
عليك ثيابك؟ فقال: يا عائشة، ألا أستحي من رجل - والله! - إن الملائكة تستحي منه».
لكن أسئلة كثيرة تتدافع ذاتياً،
تحيط الروايات السابقة بنوع من الريبة. فقد دخل عمر بن الخطاب على النبي وعائشة -
بحسب الرواية - معه في المرط؛ ولما أراد عثمان الدخول عليهما، طلب منها النبي أن
تجمع عليها ثيابها: فكيف كانت حالة عائشة حين دخل عمر، وهل يعقل أن يدخل عليها في
تلك الحالة، في حين أنها كانت تحتجب منه وهو ميت، كما لاحظنا في الفصل السابق؟!
من ناحية أخرى، فروايات كثيرة تحبل بها التراثيات الإسلامية، تظهر دون أدنى لبس، أن
عثمان كان سليط اللسان؛ فقد نقل عنه أنه قال لعمّار بن ياسر: «يا عاض أير أبيه»؛
وشتمه أيضاً بقوله: «يا ابن المتكاء»
- والمتكاء هي البظراء المفضاة التي لا تمسك البول: فهل يعقل أن يكون رجلاً كهذا
حيياً إلى درجة أن الملائكة ذاتها كانت تستحي منه؟
خطأ البداية:
رغم كلّ روايات فضائل عثمان
وحجزه لموضع في جنة الاسكاتولوجيا الإسلامية، فقد بدأ هذا الرجل خلافته بخطأ كبير
لم تغفره له عموماً الجماعة الإسلامية الأولى، مع انه حاول استمالتها بأموال
الأراضي الغنية التي غزتها جحافل المسلمين، في عهد عمر بن الخطاب: «كان تعطيل الحد
على عبيد الله بن عمر، أول دواعي النقمة على عثمان».
فحين قُتل عمر بن الخطاب، قال عبد الرحمن بن ابي بكر، شقيق عائشة، لعبيد الله بن
عمر: «رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة وجفنية... فلما رأوني ثاروا، وسقط منهم
خنجر... الذي ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله».
فقال عليّ لعثمان: «أرى أن تقتله».
لكن عثمان رفض ذلك؛ ولما «أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن
عمر، صعد عثمان المنبر، فخطب الناس، ثم قال: ألا إني وليت دم الهرمزان وتركته لدم
عمر! فقام المقداد بن عمرو، فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما
كان لله ولرسوله... ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة، وأنزله
داراً، فنسب الموضع إليه: كويفة ابن عمر».
وبالمناسبة، فقد كان عبيد الله في جيش معاوية ضد علي، وكان ممن قتل بصفين.
ورغم الصخب الذي صاحب جريمة ابن عمر وسكوت عثمان عنه، فنحن لم نسمع عن اعتراض
لعائشة أو تحريض منها للناس على الثورة.
النصف الثاني
من خلافته:
تميز النصف الثاني من خلافة
عثمان بالصراعات المتعاقبة بينه وبين الجماعة الإسلامية الأولى عموماً، وبينه وبين
عائشة بشكل خاص، والتي انتهت بقتله - دون أن يعني ذلك أنها كانت تهدف إلى قتله
حتماً. ولا نعتقد أن حرص عائشة على الصالح العام الذي ضرب به عثمان عرض الحائط كان
السبب الفعلي لمواقفها السلبية من الخليفة: لأن ذلك لو كان يعنيها بشيء لسمعنا
صوتها وإن همساً في مسألة عبيد الله بن عمر المشار إليها آنفاً. لكننا نعتقد أنها
استغلت أخطاء عثمان العامة، بذكائها الحاد، لصالحها الشخصي. ويمكن إجمال دواعيها
الشخصية للثورة على الخليفة في شقين رئيسين:
1 - الشق المادّي: تذكر
الروايات أنه «كان بين عثمان وعائشة منافرة، وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر بن
الخطاب، وصيّرها أسوة غيرها من نساء رسول الله».
لكن لا يوجد بين أيدينا شيء حول أسباب ذلك النقص؛ ويمكن لنا أن نخمّن أن ملاسنة ما
اندلعت بين الاثنين، والإثنان، كما هو معروف، عاطفيان حادّا الطباع، وهكذا قطع
عثمان الألفين الزيادة اللذين أمر لها بهما عمر بن الخطاب، وصارت مثلها مثل غيرها
من نساء النبي الأخريات.
2 - الشق المعنوي: فكما سنرى في
فصل عليّ بن أبي طالب وعائشة، كانت أم المؤمنين تطمح إلى إعادة الخلافة إلى بني تيم
- أهلها؛ وتحديداً: إلى طلحة بن عبيد الله ابن عمها الذي سنتحدث عنه في عرضنا
لحكاية الإفك.
الأسباب
العامّة للثورة على عثمان:
لقد أورث عمر عثماناً أراضٍ
مغزوة وشعوباً مقهورة وأموالاً لا تحصى. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحوّل أعيان
الجماعة الإسلامية الأولى، وعلى رأسهم بعض من أولئك الذين حجزوا أماكنهم في الجنة،
إلى طغمة من الرأسماليين الفاحشي الغنى، مقابل أصحاب الأراضي المغزوة - وسائر بقية
المسلمين - المدقعي الفقر. ومن تلك الطغمة الرأسمالية، نذكر:
²
الزبير بن العوام: «خلّف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططاً».
وخلّف «إحدى عشر داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة وداراً بمصر. وكان
له أربع نسوة، فأصاب كلّ امرأة، بعد رفع الثلث، ألف ألف ومائتا ألف... فجميع ماله
ألف ألف ومائتا ألف».
وقال ابن الهائم: «الصواب أن جميع ماله، حسبما فرض: تسعة وخمسون ألف ألف، وثمانمائة
ألف».
ويذكر ابن سعد في طبقاته
أنه: «كان للزبير بمصر خطط، وبالاسكندرية خطط، وبالكوفة خطط، وبالبصرة دور؛ وكانت
له غلّات تقدم عليه من أعراض بالمدينة». وقد قيّد ابن كثير ثروته بالدرهم في تاريخه.
²
طلحة بن عبيد الله: ترك مائة بهار، في كلّ بهار، ثلاث قناطر ذهب. وقيل إنّ البهار
جلد ثور. وذكر أيضاً أنّ طلحة خلّف ثلاثمائة جمل ذهباً.
ابتنى طلحة داراً بالكوفة، تعرف
بدار الطلحتين؛ وكانت غلّته من العراق، كلّ يوم، ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك. وله
بناحية سراة أكثر من ذلك؛ وشيّد داراً بالمدينة، وبناها بالآجر والجص والساج. وكان
يغلّ بالعراق مابين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف؛ ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار
أو أكثر أو أقل. وكان غلته كلّ يوم ألف وافياً، والوافي وزنه وزن الدينار... وترك
ألفي ألف درهم، ومائتي ألف درهم، ومائتي ألف دينار. وكان قيمة ما ترك طلحة من
العقار والأموال، وما ترك من الناض [درهم ودينار] ثلاثين ألف ألف درهم؛ ترك من
العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم، ومائتي ألف دينار، والباقي عروض. وقد قتل طلحة وفي
يد خازنه ألف ألف درهم، ومائتا ألف درهم، وقوّمت أصوله وعقاره، ثلاثين ألف ألف
درهم. ووجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.
وكان عثمان
قد أعطى طلحة في خلافته مائتي ألف دينار. فلما ثار عليه طلحة، قال: ويلي على ابن
الحضرمية، أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً، وهو يروم دمي، يحرّض على نفسي.
²
عبد الرحمن بن عوف: ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس
ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً. وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفؤوس
حتى مجلت أيدي الرجال منه؛ وترك أربع نسوة، فأصاب كلّ امرأة ثمانون الفاً. وقد
صولحت امرأة لعبد الرحمن كان طلقها في مرضه من ربع الثمن، بثلاثة وثمانين ألفاً.
وقيل إنه ابتنى داراً ووسّعها.
²
سعد بن أبي وقاص: ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم؛ ومات في والضياع،
بقيمة مائة ألف دينار.
²
عثمان بن عفان: «كان قد صار له أموال عظيمة (رض)، وله ألف مملوك».
وكان له «عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم، وخمسمائة ألف درهم، وخمسون ومائة
ألف دينار، فانتهبت وذهبت. وترك ألف بعير بالربذة، وصدقات ببراديس، وخيبر، ووادي
القرى، قيمة مائة ألف دينار».
وتقول رواية أخرى إن عثمان «يوم قتل، كان عند خازنه في المال خمسون ومائة ألف
دينار، وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما، مائة ألف دينار،
وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً».
وتقول رواية ثالثة، إن عثمان بن عفان «كان في نهاية الجود والكرم والسماحة، في
القريب والبعيد، فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته، وتأسّوا به في فعلته، وبنى
داره في المدينة، وشيدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والوعر، واقتنى
أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة».
لقد كان وضع عثمان المالي
عادياً تماماً بالنسبة لوجوه بني أميّة، الذين ساهم هو ذاته بقسط وافر في إيصالهم
إلى هذا الغنى الفاحش. فكان علي، يقول: «إنّ بني أمية ليفوقونني تراث محمد (ص)
تفويقاً»؛
ونلاحظ هنا أن علياً يعتبر تراث محمد، الذي لا يعطيه بني أمية من ماله إلا القليل،
ملكاً خاصاً به. لذلك، حين صار عليّ خليفة، قال: «ألا أن كلّ قطيعة أقطعها عثمان،
وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال... ولو وجدته قد تزوّج به
النساء، وفرّق في البلدان».
إذن: باستثناء عليّ وزيد وعبد
الرحمن ومن في حكمهم، ما هو مبرّر المذكورين آنفاً في الثورة على عثمان؟ ألا يبدو
أن الطموح إلى ما هو أكثر من الأموال والثروة سبباً وجيهاً للثورة؟
أهم دواعي
الثورة:
على ما يبدو، فإن هذا الثراء
المادّي الذي ضرب الأمة على حين غفلة، زعزع كيانها، فراحت تفقد شيئاً فشيئاً أسس
علّتها الأولى. وظهر ذلك، بادئ ذي بدئ، على شكل تجليات بسيطة. و «كان أول منكر ظهر
بالمدينة، حين فاضت الدنيا، طيران الحمام والرمي على الجاهقلات - وهي قوس البندق -
واستعم عليها عثمان رجلاً من بني ليث، سنة ثمان من خلافته، فقنص الطيور وكسر
الجاهقلات».
لكن هذه المنكرات سرعان ما تطورت إلى فضائح وجرائم، كان لعثمان اليد الطولى في
إذكاء نارها. ومن ذلك نذكر:
1 - فضيحة الوليد بن
عقبة: وهذا الرجل سيء السمعة إسلامياً. فقد قال القرآن عنه: «إذا جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا» (حجرات6)
- إذ بعدما أرسله النبي لأخذ صدقات بني المصطلقّ!!! عاد ليقول، كذباً، إنهم رفضوا
إعطاءها؛ وكالعادة ، كادت الحرب أن تنشب لولا تدخل عقلاء تلك القبيلة، وشرحهم حقيقة
الأمر للنبي.
الوليد هذا هو أخو عثمان لأمّه.
وقد عيّنه الخليفة والياً على الكوفة، بعدما عزل
عنها مؤسسها سعد بن أبي وقاص. وهو ما أزعج عامة الناس، الذين قالوا: «بئسما ابتدلنا
عثمان: عزل أبا اسحق، الهيّن الليّن الحبر، صاحب رسول الله (ص)، وولّى أخاه الفاسق
الفاجر الأحمق الماجن».
حين قدم الوليد الكوفة، كان
فيها ابن مسعود، يعلّم الناس القرآن ويفقههم في الدين. وكان أيضاً يتولى مسؤولية
بيت المال، وهذا أهم بكثير. ولمّا استقرض الوليد من بيت المال، وأراد ابن مسعود
استرداد النقود بعد ذلك،كتب الوليد إلى عثمان، الذي كتب بدوره إلى ابن مسعود، يقول:
«إنما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال». فترك ابن مسعود رعاية بيت
المال، لكنه لم يترك الكوفة.
من الكوفة، راح ابن مسعود يطعن
على عثمان، فكتب الوليد إلى الخليفة بذلك. فردّ عليه عثمان بأن يرسل ابن مسعود
إليه. ولمّا قدم ابن مسعود المدينة، كان عثمان يخطب على المنبر، فلما رآه، قال:
«إلا أنه قد قدمت عليكم دويبة سوء، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح! [لابد أن نلاحظ
هنا أسلوب التخاطب بين كبار الصحابة، خاصة ذلك الذي تستحي منه الملائكة!]. فقال ابن
مسعود: لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله (ص) يوم بدر ويوم بيتة الرضوان! [وهو بذلك
يعرّض بعثمان الذي غاب عن الحدثين]. ونادت عائشة: أي عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول
الله؟... فقال عثمان: اسكتي!!! ثم أمر عثمان به، فأخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً،
وضرب به عبد الله بن زمعة [أخو سودة زوجة النبي] الأرض؛ ويقال: بل احتمله يحموم،
غلام عثمان، ورجلاه تختلفان على عنقه، حتى ضرب به الأرض، فدقّ ضلعاه. فقال علي: يا
عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله (ص) بقول الوليد بن عتبة؟». ومنع ابن مسعود من
مغادرة المدينة، ثلاث سنوات، حتى مات.
هنالك رواية أخرى تورد سبباً
مختلفاً للصراع بين عثمان وابن مسعود؛ وربما أنّ السببين اجتمعا معاً: «كان من عمل
[عثمان] أنّه عمد إلى جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، فألّفه وصيّره، الطوال مع
القصار، وكتب في جميع المصاحف من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخلّ؛
وقيل: أحرقها! فلم يبق مصحف إلا فعل به ذلك، خلا مصحف ابن مسعود بالكوفة؛ فامتنع أن
يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان أن أشخصه... فدخل المسجد، وعثمان
يخطب، فقال عثمان، إنه قد قدمت عليكم دابة سوء. فكلّمه ابن مسعود بكلام غليظ، فأمر
به عثمان، فجرّ برجليه حتى كسر له ضلعان؛ فتكلّمت عائشة، وقالت قولاً كثيراً». وتضيف إحدى الروايات أن «ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد
[بن ثابت، الذي أوكل إليه عثمان مهمة المصحف الشهيرة]، وإحراقه المصاحف. قال ابن
مسعود: لقد أخذت القرآن من في رسول الله (ص) سبعين سورة؛ وإن زيد بن ثابت لغلام
يقرأ في الكتاب له ذؤابة». بعد وفاة ابن مسعود، دفن دون أن يصلّي عليه عثمان، بوصية منه. - أي، من ابن مسعود.
بعودة إلى فضائح الوليد
بن عقبة، نقول: إن أكثر ما أثار سخط الناس على هذا الوالي، تصرفاته المنافية لأبسط
قواعد الأخلاق والدين. فقد «روي أنّ الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنيه من
أوّل الليل إلى الصباح، فلمّا آذنه المؤذنون بالصلاة، خرج متفضلاً في غلائله،
فتقدّم إلى المحراب في صلاة الصبح، فصلّى بهم أربعاً، وقال: أتريدون أن أزيدكم؟
وقيل: إنه قال في سجوده، وقد أطال: اشرب واسقني! فقال له بعض من كان خلفه في الصف
الأول: ما تزيد! لا زادك الله من الخير! والله لا أعجب إلا ممن بعثك إلينا والياً
وعلينا أميراً». «فكان أن خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد، فقال:
أكلّما غضب رجل منكم على أميره، رماه بالباطل! لئن أصبحت لأنكّلن بكم! فاستجاروا
بعائشة، وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلظة، فقال: أما يجد
مرّاق العراق وفسّاقهم ملجأ إلاّ بيت عائشة! فسمعتْ، فرفعت نعل رسول الله (ص)،
وقالت: تركتَ سنّة رسول الله (ص) صاحب هذا النعل! فتسامع الناس، فجاءوا حتى ملأوا
المسجد، فمن قائل: أحسنت! ومن قائل: ما للنساء ولهذا! حتى تحاصبوا وتضاربوا
بالنعال. ودخل رهط من أصحاب رسول الله
(ص) على عثمان، فقالوا له: اتق الله ولا تعطّل الحدود، واعزل أخاك
عنهم! فعزله عنهم». وفي نصّ البلاذري، يقال «إن عائشة أغلظت لعثمان، وأغلظ لها، وقال: وما
أنتِ وهذا؟ إنما أمرتِ أن تقرّي في بيتكِ! فقال قوم مثل قوله؛ وقال آخرون: ومن أولى
بذلك منها؟! فاضطربوا بالنعال، وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد النبي (ص)».
لمّا طُلب إقامة الحدّ من
الوليد، امتنعت الجماعة عن ذلك «توقياً لغضب عثمان لقرابته منه؛ فأخذ عليّ السوط
ودنا منه، فلما أقبل نحوه، سبّه (!!!) الوليد، وقال: يا صاحب مكس... فاجتذبه [علي]،
فضرب به الأرض، وعلاه بالسوط». لكن عثمان، بعث أخاه الوليد، بعد إقامة الحد عليه، على صدقات كلب
وبلقين.
2 - مشكلة أبي ذر: كان
أبو ذر من أشد الناس على عثمان؛ فرُحِّل إلى الشام. وهناك أثار المتاعب لمعاوية.
فكتب معاوية إلى عثمان بذلك. فأجابه عثمان: «ابعث به إليّ واحمله على أغلظ المراكب
وأوعرها. وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار حتى يغلبه النوم، وينسى ذكري
وذكرك». فحمله على شارف من الإبل بغير مطاء، وبعث معه دليلاً عنيفاً يعنف عليه.
فوصل أبو ذر المدينة، وقد سقط لحم فخذيه. فنفاه عثمان إلى أبغض مكان إلى قلب أبي
ذر: الربذة. وفي رواية
أن مروان بن الحكم أخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته، فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى
مات. بالمناسبة، يفترض أن عثمان وأبا ذر صحابيان!!!
3 - مشاكل عمّار بن ياسر:
كانت علاقة الصحابيين، عثمان وعمار، سيئة عموماً. وتخبرنا المصادر أنه منذ البداية
الأولى في المدينة، حين كان النبي يؤسس مسجده، اصطدم عثمان بعمار، حين ارتجز
الأخير:
لا يستوي من يعمّر
المساجدا
|
|
يدأب فيها قائماً وقاعدا
|
ومن يرى عن الغبار حائدا
|
|
«فلما أكثر، ظن رجل من أصحاب رسول الله (ص) أنّه إنّما
يعرّض به» - كما جاء في سيرة
ابن هشام؛ وقال أبو ذر الخشني في شرحه؛ نقلاً عن ابن اسحق: إنّ هذا الرجل هو
عثمان بن عفان. وفي رواية أخرى، يقال إن عثمان ردّ عليه، بقوله: قد سمعت ما تقول
منذ اليوم يابن سميّة، والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك! [وكان] في يده
عصا!... فغضب رسول الله، ثم قال: مالهم ولعمار؟! يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى
النار! إنّ عماراً جلدة مابين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من الرجل، فلم يستبق،
فاجتنبوه.
اصطدم الصحابيان بعنف في خلافة
عثمان. وتتضارب الآراء حول أسباب ذلك الصدام. وربما أن الصدامات كانت كثيرة، متنوعة
الأسباب. على أية حال، يمكن تلخيص ذلك على النحو التالي:
يقال إنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه
حلي وجوهر، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك.
وكان منهم عمار. فقال عثمان: أعليّ يا ابن المتكاء [ - نذكر هنا بضرورة ملاحظة لغة
حوار الصحابة -] تجترئ! خذوه! فأخذوه، ودخل عثمان، فدعا به، فضربه حتى غشي عليه، ثم
أُخرج حتى أُتي به منزل أم سلمة، زوجة النبي. فقال هشام بن المغيرة المخزومي، وكان
عمار حليفاً لبني مخزوم: يا عثمان! أمّا عليّ فاتقيته وبني أبيه، وأمّا نحن فاجترأت
علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف؛ أما والله لئن مات لأقتلن به رجلاً من
بني أمية عظيم السرة. وبلغ عائشة ما صُنع بعمار، فغضبت وأخرجت - كالعادة - شعراً من
شعر رسول الله (ص) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله، ثم قالت: ما أسرع ما تركتم
سنّة نبيكم، وهذا ثوبه وشعره ونعله لم يبل بعد! فغضب عثمان غضباً شديداً، حتى ما
درى ما يقول.
تقول رواية أخرى ما مفاده أنّ
نفراً من أصحاب النبي اجتمعوا وكتبوا كتاباً لعثمان، ذكروا فيه كلّ حدث أحدثه عثمان
منذ ولي الخلافة حتى ذلك اليوم، وخوفوه فيه وأعلموه أنه إن لم ينزع عمّا هو عليه،
خلعوه واستبدلوا به غيره. ولما أرادوا حمل الكتاب إلى عثمان، تلكأ الجميع باستثناء
عمار، الذي ذهب إليه وحده. فدخل عليه، وعنده مروان بن الحكم، الذي قال: إن هذا
العبد الأسود(!!!) قد جرّأ عليك الناس! وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه! قال عثمان:
اضربوه! فضربوه، وضربه عثمان معهم(!!!) حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه، فجرّوه حتى
طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة فأُدخل منزلها.
عزم عثمان على نفي عمّار. فتدخل
بنو مخزوم عند علي، الذي تدخل بدوره مع عثمان، فقال له الأخير: لأنت أحق بالمسير
منه، فوالله ما أفسد عليّ عماراً وغيره سواك! فرجع علي، وقال لعمار، اجلس في بيتك،
ولا تبرح منه!.
4 - أزمة قرّاء الكوفة:
بعد أن عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وعيّن مكانه سعيد بن العاص، أُمر
الأخير بمداراة أهل ذلك المصر. لكن سرعان ما تفجرت المشاكل بين قرّاء الكوفة
والوالي الجديد لأسباب - كالعادة - مادية. ولما عرف عثمان بالأمر، طلب من سعيد أن
يسيّرهم إلى معاوية الذي سجنهم. أمر عثمان معاوية بردهم إلى الكوفة، فأطلقوا هناك
ألسنتهم في ذمّ الخليفة. فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص أن يرسلهم إلى حمص. وهناك
مكثوا شهراً، ثم ردّوا إلى الكوفة.
أزمة قرّاء الكوفة، جعلت بعضهم يكتب إلى عثمان،
قائلاً: إن سعيداً أكثر على قوم من أهل الورع والفضل والعفاف، فحمّلك في أمرهم ما
لا يحل في دين، ولا يحسن في سماع، وإنّا نذكرك الله في أمة محمد (ص)، فقد خفنا أن
يكون فساد أمرهم على يديك، أنك قد حملت بني أبيك على رقابهم! وبعثوا بالكتاب مع رجل
من عنزة، يدعى أبا ربيعة.
لكن أحدهم، وهو كعب بن عبيدة
الهندي، أضاف كتاباً آخر، قال فيه: إني نذير لك من الفتنة، متخوف عليك فراق هذه
الأمة، وذلك أنك قد نفيت خيارهم، وولّيت أشرارهم، وقسمت فيئهم في عدوهم، واستأثرت
بفضلهم، ومزّقت كتابهم، وحميت قطر السماء ونبت الأرض، وحملت بني أبيك على رقاب
الناس، حتى أوغرت صدورهم. واخترت عداوتهم. وعندما جاء العنزي بالكتابين، أراد عثمان جلده، فمنعه عليّ، ومنعه
أيضاً عن سجنه.
كتب عثمان إلى سعيد بن العاص أن يرسل إليه كعب بن عبيدة مع سائق عنيف. وما أن وصل كعب، حتى
قال مروان بن الحكم لعثمان: حلمك أغرى مثل هذا بك وجرّأه عليك! فأمر عثمان بكعب،
فجرّد وضرب عشرين سوطاً، وسيّره إلى دباوند. ثم أن طلحة والزبير وبّخا عثمان في أمر
كعب وغيره. فكتب في ردّ كعب، فلما قدم عليه، نزع ثوبه، وقال: يا كعب! اقتصّ ! فعفا
عنه.
المصيبة
الكبرى: بنو أمية!
تذكر المصادر الإسلامية أن
عثمان بن عفان آثر بني أمية وحملهم على رقاب المسلمين، رغم أنهم أخذوا عليه يوم
بيعته عهداً بأن لا يفعل ذلك. ولما ازداد النقد على أفعاله، دعا عثمان جماعة من
صحابة النبي، فيهم عمّار بن ياسر، وقال لهم: إني سائلكم وأحبّ أن تصدقوني: نشدتكم
بالله، أتعلمون أنّ رسول الله (ص) كان يؤثر قريشاً على سائر الناس، ويؤثر بني هاشم
على سائر قريش؟ فسكت القوم! فقال عثمان: لو أن بيدي مفاتيح الجنة، لأعطيتها بني
أميّة حتى يدخلوا من عند آخرهم.
وكما رأينا حين تحدثنا عن أزمة
عمّار مع عثمان، فإن مجموعة من الصحابة كتبت إلى عثمان كتاباً، ذكرت فيه ما خالف
فيه الخليفة سنّة النبي وصاحبيه، أبي بكر وعمر. ويمكن تلخيص تلك المآخذ كما يلي:
1 - إعطاء مروان بن الحكم خمس
غنائم أفريقيا (خمسمئة ألف دينار).
2 - تطاول عثمان في البنيان، إذ
بنى سبع
دور بالمدينة، كانت إحداها لعائشة.
3 - بناء مروان للقصور بذي خشب
بأموال من الخمس.
4 - إفشاؤه العمل والولايات في
أهله وبني عمّه من بني أمية، وهم أحداث وغلمان، لا صحبة لهم ولا تجربة.
5 - مشكلة الوليد بن عقبة.
6 - تركه المهاجرين والأنصار،
لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم، واستغناؤه برأيه عن رأيهم.
7 - حمى المراعي كلّها حول
المدينة عن مواشي المسلمين جميعاً، عدا بني أمية.
8- إدراره القطائع والأرزاق
والأعطيات على أقوام ليست لهم صحبة.
9 - كان عثمان أوّل من ضرب ظهور
الناس بالسياط! وكانوا قبله يضربون بالدرّة والخيزران.
إضافة إلى كلّ ما سبق، تذكر بعض
المراجع مآخذ أخرى، أبرزها:
1 - ردّه الحكم بن أبي العاص
إلى المدينة، بعد أن طرده النبي منها؛ وبرّر ذلك بادعائه أنه كلّم النبي في ردّه،
فوعده بأن يأذن له، ومات قبل ذلك. والحقيقة أن أبا بكر وعمر رفضا ردّه رغم توسط
عثمان له.
2 - إعطاؤه فدك
لمروان بن الحكم، وكان زوج ابنته أم أبان؛ وفدك هي التي كانت أشعلت الصراع بين
فاطمة وعلي من ناحية، وأبي بكر من ناحية أخرى.
3 - إعطاؤه صدقات قضاعة للحكم
بن أبي العاص.
4 - إعطاؤه عبد الله بن أبي سرح
جميع ما أفاء الله عليه من غزو أفريقيا بالمغرب.
5 - إعطاؤه مئة ألف لمروان من
بيت المال؛ وهو ما دفع يزيد بن أرقم، صاحب بيت المال، بأن يأتي بالمفاتيح، ليقول:
لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً. فقال له عثمان: ألق بالمفاتيح، فإننا سنجد
غيرك.
6 - إعطاؤه ثلاثمائة ألف درهم
(أو مئة ألف) للحارث بن الحكم، أخي مروان، وزوج عائشة بنت عثمان بن عفان.
7 - إعطاؤه مئة ألف درهم للوليد
بن عقبة بن أبي معيط، أخيه لأمه، كان استقرضها من بيت المال، كما رأينا، يوم جاء
إلى الكوفة. وعزله لعبد الله بن مسعود، خازن بيت مال الكوفة، لاعتراضه على عدم رد
المال.
8 - إعطاؤه عبد الله بن خالد بن
أسيد ثلاثمائة ألف درهم (أو أربعمئة الف)؛ ولكل رجل من قومه، مئة ألف درهم.
9 - إعطاؤه مئتي ألف درهم من
بيت المال لأبي سفيان.
10 - إعطاؤه الحارث بن الحكم
مهروز (وهي سوق بالمدينة تصدّق بها النبي على المسلمين).
11 - أتاه أبو موسى الأشعري
بأموال كثيرة من العراق، فقسمها كلها في بني أمية.
12 - لما أتى عمر بجوهر كسرى،
قال لخازنه: ارفعه، فأدخله بيت المال. وقتل عمر وهو بحاله، فأخذه عثمان لما ولي
الخلافة، فحلّى به بناته.
13 - أعطى سعيد بن العاص مئة
ألف.
مشكلة مصر:
كان عثمان قد عيّن أخاه من
الرضاعة، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، مكان عمرو بن العاص
على خراج مصر، واستخدم عمرو بن العاص على الصلاة، ثم جمع الأمرين بيد عبد الله.
وكان النبي قد أهدر دم عبد الله هذا، وأمر بقتله ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة،
لأنه ارتد عن الإسلام، وهرب من المدينة إلى مكة قبل فتحها؛ وكان يعمل قبل ردته
كاتباً للنبي؛ فكان إذا أملى الأخير عليه: عزيز حكيم، يدونها عبد الله: عليم حكيم؛
فيقول النبي: كلّ صواب! وهكذا، اكتشف عبد الله أن لا فارق في مسألة الوحي بينه وبين
النبي، فارتد. وكالعادة، كان الله له بالمرصاد. فنزلت بحقه الآيات تتهمه بالافتراء،
وتتهدده وتتوعده (أنعام 93).
هذا الرجل، هو الذي فتح أفريقيا
بعد أن عيّنه عثمان والياً على مصر عام 25هـ، فأعطاه عثمان خمس ما جنوه من غزوتها
الأولى. وظلّ والياً على مصر حتى ثار ابن أبي حذيفة ضده عام 34هـ فهرب إلى فلسطين.
يروي البلاذري
أن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة قدما مصر، بعد أن ازداد الشغب على عثمان في
المدينة، وراحا يظهران العيب عليه هناك، وكيف عيّن والياً على مصر رجلاً أباح النبي
دمه، ونزل القرآن بكفره، بعدما قال: «سأنزل مثلما أنزل الله» - أي عبد الله بن سعد
بن أبي سرح. وساعدهما في ذلك تذمّر أهل مصر من هذا الرجل وظلمه، الذي بلغ به الحال
أن ضرب بعض من شكاه إلى عثمان حتى الموت. وكان قد جاء وفد منهم إلى المدينة، وذكروا
على نحو خاص، استثناء عبد الله بغنائم المسلمين؛ فكتب إليه عثمان كتاباً يتهددّه فيه، فأبى أن ينتهي عما نهاه عنه، بل
ضرب بعض من شكاه إلى عثمان حتى قتله.
بداية الثورة:
هذا كلّه أدى بجماعة
المسلمين الأولى، خاصة من تبقى من صحابة النبي، أن يكتبوا لأخوانهم في البلدان
يدعونهم لغزو عثمان. يروي الطبري: «لما رأى الناس ما
صنع عثمان، كتب من بالمدينة من أصحاب النبي (ص) إلى من بالآفاق منهم، وكانوا قد
تفرّقوا بالثغور: إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجل، تطلبون دين
محمد، فإنّ دين محمد قد أفسده من خلفكم وترك فهلموا، فأقيموا دين محمد (ص)». وفي
رواية ابن الأثير، «فإن دين محمد قد أفسده خليفتكم». وفي رواية ابن أبي
الحديد، «فاخلعوه».
اجتمع عموم المهاجرين وغيرهم،
وأوكلوا إلى عليّ مهمة التحدّث إلى عثمان ووعظه. ودارت بين الاثنين حوارات هامة
فعلاً، حاول فيها عثمان أن يدافع عن نفسه بقوله، إن عمر بن الخطاب كانت له تصرفات
مماثلة ولم يجرؤ أحد على تحدّيه.
محمد بن أبي
بكر: القشة التي قصمت ظهر البعير!
يروى
أن أهل الكوفة والبصرة ومصر التقوا في مكّة، لدراسة أمر عثمان. واتفقوا على اللقاء
بعد عام لمكاشفة الخليفة في كلّ شيء: فإن قبل، وإلاّ. وكانت مصر أشد الثائرين على
عثمان. أرسل الأخير إلى ابن حذيفة بأموال وغيرها لتخفيف حدة ثورة الشعب عليه،
فاعتبرها ابن أبي حذيفة رشوة، واستغل الأمر بعكس ما كان يرغب عثمان. وهكذا، خرج المصريون مع محمد بن أبي بكر لموافاة أهل المدن الأخرى
بحسب الاتفاق المكّي.
أرسل المصريون بكتاب إلى عثمان
مع أحدهم. فاستدعى الخليفة عليّ بن أبي طالب، وطلب منه محاولة تهدئتهم وإرضائهم.
فوافق علي، شريطة أن يفي عثمان لهم بكل ما يضمنه لهم عنه. فوافق. فأخذ منه كتاباً
بذلك، وقّعه كبار الصحابة.
يبدو أن عثمان كتب للمصريين
كتاباً عزل فيه عبد الله بن أبي سرح، وولّى مكانه محمد بن أبي بكر؛ وذلك بعد أن «قام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد»؛ وقالت له عائشة: «قد تقدّم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا
الرجل، فأبيت إلا واحدة، فهذا قد قتل رجلاً، فأنصفهم من عاملك». «ودخل عليه عليّ بن أبي طالب، وكان متكلّم القوم، فقال: إنما يسألك
الناس رجلاً مكان رجل... فاعزله عنهم واقض بينهم». فقال عثمان: «اختاروا رجلاً أوليه عليهم». فأشاروا عليه بمحمد ابن أبي بكر.
طلب عليّ من عثمان أن يعتذر من الناس جهاراً، ففعل.
ولما عاد إلى منزله، وجد فيه مروان بن الحكم وجمع من بني أمية. فاعترض مروان على
خطبة عثمان، وقال له: «والله لإقامة على خطيئة يستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف
عليها، وإنك إن شئت تقرّبت بالتوبة، ولم تقرر بالخطيئة؛ وقد اجتمع عليك بالباب مثل
الجبال من الناس! فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلّمهم، فإني أستحي أن أكلّمهم... فخرج
مروان إلى الباب، والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم: قد جئتم للنهب! شاهت
الوجوه! كلّ إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من
أيدينا! اخرجوا عنا! أما والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم أمر يسؤكم ولا تحمدوا غبه
رأيكم! ارجعوا إلى منازلكم، فإن والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا».
لمّا سمع عليّ بما حصل، ثارت ثائرته. وتفجر أيضاً ضد
مروان غضب زوجة عثمان، نائلة بنت الفرافصة. قال علي: «عياذ الله، ياللمسلمين! إني
إن قعدت في بيتي، قال [عثمان] لي: تركتني وقرابتي وحقي! وإني إن تكلمت، فجاء ما
يريد، يلعب به مروان، فصار سيقة له، يسوقه حيث يشاء، بعد كبر السن وصحبة رسول الله
(ص)». ولما أرسل عثمان إلى عليّ كي يأتيه، رفض الأخير ذلك. فجاءه عثمان،
ودارت بين الاثين المحاورة التالية؛ قال عثمان لعلي: « قطعت رحمي وخذلتني وجرّأت
الناس علي». فردّ عليه علي: «والله إني أول الناس ذباً عنك، ولكني كلما جئت بشيء
أظنه لك رضا، جاء مروان بعده بغيره، فسمعت قوله وتركت قولي».
لكن ما حصل لمحمد بن أبي بكر، كان القشة التي قصمت ظهر
البعير. فبعدما أخذ المصريون، وعلى رأسهم محمد بن أبي بكر، كتاباً من عثمان بعزل
عبد الله وتولية محمد مكانه، صادفوا في طريقهم غلاماً، ولما سألوه، قال: أنا غلام
مروان، مرة؛ وقال: أنا غلام أمير المؤمنين، مرة أخرى؛ حتى عرفه رجل، هو أبو الأعور
بن سفيان السلمي، أنه غلام عثمان. وكان مع الغلام كتاب لعبد الله بن أبي سرح، يقول:
«إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان، فاقتلهم! وأبطل كتابهم! وقر على عملك حتى
يأتيك رأيي». وفي رواية أخرى: «واحبس من يجيء إليك متظلماً منك إن شاء الله».
عاد الجمع إلى المدينة؛ ولم يبق
أحد إلا وحنق على عثمان. فحصره الناس، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم،
وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله. وكانت عائشة تقرصه كثيراً.
نفى عثمان أية معرفة له
بالكتاب. وزعم أمام عليّ أنه زوّر عليه. وعرف الناس الخط بأنه خط مروان بن الحكم،
وأنه كتبه دون علم عثمان. وكان مروان كاتب عثمان، وكان خاتم عثمان في إصبع مروان.
اقتلوا نعثلاً
فقد... كفر!!
«كان أشدّ الناس على عثمان طلحة والزبير ومحمد بن أبي
بكر وعائشة، وخذله المهاجرون والأنصار، وتكلّمت عائشة في أمره، وأطلعت عائشة شعرة
من شعرات رسول الله (ص) ونعله وثيابه، وقالت: سرعان ما نسيتم سنة نبيّكم! فقال
عثمان في آل أبي قحافة [أسرة أبي بكر]... وغضب حتى ما كان يدري ما يقول». وتقول رواية أخرى: «كان عثمان يخطب، إذ دلّت عائشة قميص رسول الله،
ونادت: يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبلَ، وقد أبلى عثمان سنته. فقال
عثمان: ربّ اصرف عني كيدهن، إن كيدهن عظيم». وفي رواية ثالثة، إن عائشة قالت له: «أي عثمان، خصّصت بيت مال
المسلمين لنفسك، وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين، ووليتهم البلاد، وتركت
أمة محمد في ضيق وعسر، قطع الله عنك بركات السماء، وحرمك خيرات الأرض، ولولا أنك
تصلّي الخمس لنحروك(!!!) كما تنحر الإبل! فقرأ عليها عثمان: ضرب الله مثلاً للذين
كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا الصالحين، فخانتناهما فلم
يغنينا عنهما من الله شيئاً، وقيل ادخلا النار مع الداخلين».
كانت الآية السابقة، التي أشرنا
إليها في فصل مارية وعائشة، أسوأ تعريض بعائشة. هذا كله - وغيره - دفع عائشة إلى
القول عن عثمان بصريح العبارة: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر». وكانت عائشة، على ما يبدو، أول من لقبت عثمان نعثلاً
. فانتشرت هذه العبارة كالنار
في الهشيم، لتصبح على لسان كلّ من يعادي عثمان.
حصار عثمان:
أرسلت عائشة «كتباً إلى البلاد تحرّض المسلمين على الخروج عليه»
. وأقبل مالك الأشتر من
الكوفة في ألف رجل، وأقبل ابن أبي حذيفة من مصر في أربعمئة رجل، فأقام أهل الكوفة
وأهل مصر بباب عثمان ليلاً ونهاراً. وكان طلحة يحرّض الفريقين جميعاً على عثمان. ثم
أن طلحة قال لهم: إن عثمان لا يبالي ما حصرتموه، وهو يدخل إليه الطعام والشراب،
فامنعوه الماء أن يدخل
عليه.
واستولى
«طلحة
على
أمر
الناس
في الحصار».
لما اشتد الأمر على عثمان، أمر
مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
فأتيا عائشة، وهي تريد الحج - دون أن تطلب أذن الخليفة طبعاً - فقالا لها: لو أقمت،
فلعلّ الله يدفع بك هذا الرجل؟ [- وقال مروان: «ويدفع لك بكل درهم أنفقتيه درهمين»-]. فقالت: قد قرنت ركائبي وأوجبت الحج على نفسي، والله لا أفعل! فنهض
مروان وصاحبه ومروان يقول:
وحرّق قيس عليّ البلا
|
|
د، فلما اضطرمت أحجما
|
فقالت عائشة: يا مروان [ «ألعلك
ترى أني في شك من صاحبك؟»]، والله لوددت أنه في غرارة من غرائري هذه، وإني طوقت
حمله حتى ألقيه في البحر.
وفي موقف مناقض تماماً لما كان
يحصل أيام عمر، الذي منعها من الحج حتى عامه الأخير، خرجت عائشة - حاجة!!! - إلى
مكة؛ وخرج أيضاً ابن عباس، أمير عثمان على الحج. ولما التقيا في إحدى ضواحي
المدينة، قالت له: يا ابن عباس! أنشدك الله، فإنك أعطيت لساناً ازعيلاً [أو:
ازميلاً] أن تخذل هذا الرجل [أو: إياك أن ترد عن هذا الطاغية]. وقد رأيت طلحة بن
عبيد الله قد اتخذ من بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يك يسير بسيرة ابن عمه أبي
بكر. فرد عليها ابن عباس: لو حدث بالرجل حدث، ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا - يقصد
عليّ بن أبي طالب! فقالت: إيهاً عنك! لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.
كان عليّ عند حصر عثمان في خيبر. فقدم المدينة، والناس
مجتمعون عند طلحة. فذهب عليّ إلى بيت المال، ولما لم يستطع الحصول على المفاتيح،
قال: اكسروه! فكُسر باب بيت المال. فقال: أخرجوا المال! فجعل يعطي الناس، فبلغ
الذين في دار طلحة ما فعل علي، فتسلّلوا إليه حتى بقي طلحة وحده!!! وبلغ عثمان ما
حدث، فسرّ بذلك. فأقبل طلحة إلى دار عثمان، وقال له: يا أمير المؤمنين، أستغفر الله
وأتوب إليه! أردت أمراً، فحال الله بيني وبينه! فقال عثمان: إنك والله ما جئت
تائباً، ولكنك جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة!.
مقتل عثمان:
استمر حصار عثمان أربعين ليلة،
كان طلحة يصلّي بالناس أثناءها. ولم يكن أحد من أصحاب النبي أشد على عثمان من طلحة. وكما رأينا، فقد منع دخول الماء عليه؛ فأرسل عليّ إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، حتى قال
طلحة: ما أنت وهذه!.
كان عليّ يعرف أنهم يريدون قتل عثمان، فأرسل ابنيه،
الحسن والحسين، وقال لهما: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً
يصل إليه. وبعث الزبير ابنه على كره، وبعث طلحة ابنه أيضاً. لذلك، تسوّر محمد بن
أبي بكر، الذي كان حنقه على عثمان قد بلغ ذروته بعد قصة الكتاب الذي وجّه إلى مصر،
واثنان من أصحابه، من دار رجل من الأنصار، حتى دخلوا على عثمان، وما يعلمهم أحد ممن
كان معه، لأنهم كانوا فوق البيوت، ولم يكن معه إلا امرأته؛ فقال محمد بن أبي بكر
لصاحبيه: أنا أبدأكما بالدخول، فإذا أنا ضبطته، فادخلا فتوجآه حتى تقتلاه. فدخل
محمد، فأخذ بلحيته، فقال له عثمان: لو رآك أبوك لساءه مكانك مني! فتراخت يده. ودخل
الرجل، فتوجآه حتى قتلاه. وقد اختلف أهل السير فيمن قتله وفي كيفية قتله.
تقول إحدى الروايات، إنه «لما
قتل عثمان (رض)، أرادوا حزّ رأسه، فوقعت عليه نائلة وأم البنين فمنعنهم، وصحن وضربن
الوجوه ومزقن ثيابهن. وأقبيل عمير بن ضابئ، وعثمان موضوع على باب، فنزا عليه، فكسر ضلعاً من أضلاعه. وقال: سجنت
ضابئاً حتى مات في السجن».
اتفقت الروايات على أن عثمان
ترك ثلاثاً لم يدفن حتى توسط عليّ في دفنه. تقول إحدى الروايات «إنهم كلموا علياً
في دفنه، وطلبوا إليه أن يأذن لأهله ذلك، ففعل وأذن لهم علي، فلما سُمع بذلك، قعدوا
له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله، وهم يريدون حائطاً بالمدينة، يقال له: حش
كوكب! كان اليهود تدفن فيه موتاهم». ويروى أن أحد الأنصار رفض أن يُصلّى عليه، واسمه الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري. ورفض أنصاري آخر، هو جبلة بن عمر الساعدي، دفنه في البقيع أو الصلاة
عليه؛ فدفنوه، كما أشرنا، في حش كوكب. و «لم يلحدوه بلبن، وحثوا عليه التراث حثواً».
لما خرجت جنازة عثمان، قام بعض
الناس وهموا بطرحها، فبلغ ذلك علياً، فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفن عنه، ففعلوا.
ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه، وابنته؛ ولما ناحت ابنته،
ورفعت صوتها تندبه، أخذ الناس الحجارة، وقالوا: نعثل! نعثل! فكادت تُرجم.