كانت خلافتا أبي بكر وعمر،
المرحلة الأهدأ في حياة عائشة. - وكان هذا طبيعياً. فقد حقّقت عائشة أثناءها الكثير
مما كانت تطمح إليه، معنوياً ومادياً: فأبوها كان يمسك بزمام الخلافة، وهي «استقلت
بالفتوى»؛ وتميّزها المادي عن بقية نساء النبي تشهد عليه مصادر كثيرة.
لقد أشرنا في كتابنا، «يوم
انحدر الجمل من السقيفة»، إلى الكيفية التي صار بها أبو بكر خليفة. وقد قامت
عائشة بدور هام في بث أحاديث، لا نعرف مدى دقتها، تأييداً لخلافة والدها، وانتقاماً
- وهذا أهم - من ألدّ أعدائها: عليّ بن أبي طالب.
ففي فضل أبي بكر، تروي عائشة
أحاديث كثيرة. من ذلك ، زعمها أنها قالت للنبي، مرّة: «يا رسول الله، أكلّ الناس
تقف للحساب يوم القيامة؛ قال: نعم، إلا أبا بكر، فإن شاء مضى، وإن شاء وقف».
لقد استغلّت عائشة حدث موت
النبي أفضل استغلال، لتقديم حكايا غير مؤكّدة داعمة لخلافة أبيها. من ذلك، مثلاً،
ما أورده ابن ماجة
نقلاً عنها: «لما مرض رسول الله (ص) مرضه الذي مات فيه - وقال أبو معاوية: لما ثقل-
جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال: مروا أبا بكر، فليصلّ بالناس؛ قلنا: يا رسول الله،
إن أبا بكر رجل أسيف - تعني: رقيق - ومتى ما يقوم مقامك يبكي، فلا يستطيع، فلو أمرت
عمر، فصلّى بالناس! فقال: مروا أبا بكر، فليصلّ، فإنكن صواحب يوسف! فأرسلنا إلى أبي
بكر، فصلّى بالناس. فوجد رسول الله (ص) في نفسه خفّة، فخرج إلى الصلاة يهادي بين
رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض. فلما أحس به أبو بكر، ذهب ليتأخر. فأومئ إليه النبي
(ص) أن مكانك؛ فجاء حتى أجلساه إلى جنب أبي بكر. فكان أبو بكر يأتم بالنبي (ص)،
والناس يأتمون بأبي بكر».
وفي رواية أخرى
منقولة عن عبد الله بن عمر، نجد عائشة تقول للنبي: «إن أبا بكر رجل رقيق كثير
البكاء حين يقرأ القرآن، فمر عمر، فليصلّ بالناس. فراجعته عائشة بمثل مقالتها، فقال
رسول الله (ص): ليصلِّ بالناس أبو بكر! إنكن صواحب يوسف».
وتدّعي عائشة، أن النبي قالها
لها في مرضه الأخير: «ادعي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن
يتمنى متمنٍ، ويقول قائل: أنا أولى! ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».
ويروى عنها أيضاً، أنه «لمّا
ثقل رسول الله (ص)، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف ولوح حتى أكتب لأبي
بكر، لا يختلف عليه! فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف
عليك، أبا بكر». لكن: ألم يكن بين كلّ المسلمين من يستأهل حمل هذه المهمّة المصيرية
غير عبد الرحمن الذي لم يكن عطر السمعة اسلامياً بأية حال؟
من أحاديث كهذه، يمكن أن نتلمس
محاولة عائشة كي تظهر أنّ النبي هو الذي اختار أبا بكر إماماً بعده، وأنها من
ناحيتها كانت معترضة على ذلك!
كما أشرنا، فالكلام عن عائشة
شبه نادر في حقبة خلافة أبي بكر: فمن جهة، كانت عائشة ذاتها هادئة وقد تحقق لها
أقصى ما تشتهي؛ ومن جهة أخرى، كانت خلافة أبي بكر ملأى بالصراعات الداخلية والمصاعب
الكبيرة: حدث السقيفة وخروج سعد بن معاذ على الخليفة؛ والحروب التي شنت ضد كلّ من
ارتدّ عن الدين أو رفض خلافة أبي بكر من العرب - وعبّر عن ذلك بامتناعه عن دفع
الزكاة.
عمر بن الخطاب... وعائشة
ومات أبو بكر، و «أقامت عائشة
عليه النوح، فنهاهن عن البكاء عمر، فابين أن ينتهين، فقال لهشام بن الوليد: ادخل،
فأخرج لي ابنة أبي قحافة، أخت أبي بكر! فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر:
إنّي أحرّج عليك بيتي! فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لكَ. فدخل هشام، فأخرج إليه
فروة بنت أبي قحافة، فعلاها بالدرة ضربات، فتفرّق النوح حين سمعن ذلك».
كذلك، فمن المتعارف عليه
عموماً، أن عمر بن الخطّاب منع زوجات النبي - وضمنهن عائشة - من الحج والعمرة. ولم
يسمح لهن بذلك حتى سنته الأخيرة.
مقابل هذا الحزم غير المبرّر
الذي أظهره عمر بن الخطّاب تجاه عائشة، فقد استخدم أيضاً الوجه الآخر للعملة
فاستطاع استقطاب أم المؤمنين، كما لم يستقطبها أحد قبله. ويبدو أن ابن الخطّاب كان
يعرف نقطتي ضعفها الكبيرتين: السلطة والمادة:فمن ناحية، كما أشرنا من قبل، «استقلت
[عائشة] بالفتوى في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، وهلّم جرا، إلى أن ماتت»؛
ومن ناحية أخرى، يخبرنا كثير من المصادر الإسلامية، أن عمر ابن الخطاب «فرض لأمهات
المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين؛ وقال: إنها حبيبة رسول الله (ص)».
أما اللواتي «جرى عليهن الملك، فلم يحظين حتى بالآلاف العشرة»،
«فقد فرض لهما [جويرية وصفية] في ستة آلاف ستة آلاف»
- دون أن يكون لديه أي سند شرعي لذلك.
أموال...
أموال... أموال!!!
تذكر الروايات أنّه «قدم درج من
العراق، فيه جوهر إلى عمر، فقال لأصحابه: أتدرون ما ثمنه؛ فقالوا: لا! ولم يدروا
كيف يقسمونه! فقال: أتأذنون أن أرسل به إلى عائشة، لحبّ رسول الله إياها؟ فقالوا:
نعم. فبعث به إليها. فقالت: ماذا فتح الله على عمر بن الخطاب، اللهم لا تبقين عطية
لقابل».
هذا كلّه كان يخلق نوعاً من
التذمّر في صفوف الجماعة الإسلامية الأولى. تقول إحدى الروايات، إنّ عمر بن الخطاب
«كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز، حتى أنه كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم،
ومنع أهل البيت خمسهم الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله (ص)».
بل يُقال إن عائشة ذاتها احتجت مرة على هذا «اللاعدل»
العمري؛ ورد في الكشاف: «روي أنّ عمر بن الخطاب (رض) بعث إلى أزواج رسول
الله (ص)، فقالت عائشة (رض): أإلى كلّ أزواج رسول الله (ص) بعث عمر مثل هذا؟ قالوا:
لا! بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهن غيره. فقالت: إرفع رأسك، فإنّ رسول الله
(ص) كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه! فرجع الرسول، فأخبره، فأتمّ لهن جميعاً».
مع ذلك فهذا لم يمنع أن يكون رضى عائشة على خلافة عمر كاملاً. سئلت ذات مرّة: «من
كان رسول الله مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر! فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟
قالت: عمر! ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. ثم انتهت إلى هذا».
الحج
الأخير... والأول!
عام وفاته، 23 هـ، استأذن نساء
النبي عمر بن الخطاب في الحج، باستثناء سودة وزينب، اللتين لم تحجا بعد النبي،
وقالتا: لا يحرّكنا ظهر بعير! وقالت سودة: قد حججت واعتمرت، فأنا أقعد في بيتي
كما أمرني الله. فأمر عمر لهن، وأمر بجهازهن، فحملن في الهوادج، عليهم الأكسية
الخضر - الطيالسة الخضر - وهن حجرة من الناس، وبعث معهن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان
بن عفّان.
كان التحريص على نساء النبي،
وهنّ في طريقهن إلى الحج، مبالغاً به. - وليس هذا بالأمر غير العادي، خاصة إذا ما
أخذنا بعين الاعتبار تحايل عائشة على النص الديني لإدخال الرجال عليها - كما سنلاحظ
في بحث الحجاب ورضاع الكبير - وتداولها العلني والصريح للأحاديث الجنسية مع الكثير
من الرجال.
لكننا نتساءل أيضاً، هل كان ابن
الخطاب، في تحريصه المبالغ به هذا، يضع نصب عينيه محنة الإفك وصفوان وقصة طلحة بن
عبيد الله مع عائشة (راجع الفصل المتعلق بذلك لاحقاً) - هذا ما وصلنا على الأقل -
خاصة وأن إمكانية التبريء انتهت مع توقف الوحي وانفصال الملائكي عن البشري، مرة
وإلى الأبد؟! فقد «كان عثمان يسير على راحلة أمامهن، وينادي: ألا يدنو إليهن أحد،
ولا ينظر إليهن أحد! فلا يدع أحداً يدنو منهن ولا يراهن إلا من مدّ البصر. فإذا دنا
منهن أحد، يصيح: إليك؟! إليك؟! وكان عبد الرحمن [بن عوف] يسير على راحلته من
ورائهن، يفعل مثل ذلك».
وفي رواية المسور بن مخرمة،
يقال: «ربما رأيت الرجل ينيخ على الطريق لإصلاح رحل أو بعض ما يصلح من جهازه،
فيلحقه عثمان وهو أمام أزواج النبي (ص)، فإذا كان الطريق سعة، أخذ يمين الطريق أو
يساره؛ فيبعد عنه؛ وإن لم يجد سعة، وقف ناحية حتى يرحل الرجل أو يقضي حاجته. وقد
رأيته يلقي الناس مقبلين في وجهه من مكة على الطريق، فيقول لهم: يمنة أو يسرة!
فينيخهم حتى يكونوا مدّ البصر حتى يمضين؛ وكن ينزلن مع عمر كلّ منزل، وكانا ينزلان
بهن في الشعاب وينزلان في فيء الشعاب، ولا يتركان أحداً يمر عليهن».
وفي رواية أخرى: «ينزلان بصدر الشعب، وينزلان بذنب الشعب، ولا يصعد إليهن أحد؛ [وفي
ثالثة]:ينزلهن في الشعب الذي ليس له منفذ؛ [أو]: وقد ستروا عليهن الشجر من كلّ
ناحية».
وفاة عمر...
وعائشة:
بعد أن طُعن عمر، وقبيل وفاته،
قال لابنه: «يا عبيد الله... انطلق إلى عائشة، أم المؤمنين، فقل [لها]: يقرأ عليكِ
عمر السلام... وقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه [النبي وأبي بكر في حجرتها].
فسلّم، فاستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال، يقرأ عليك عمر بن الخطاب
السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كُنت أريده لنفسي، ولأؤثرن به على نفسي.
فلما أقبل... قال [عمر] ما لديك؟ قال: الذي تحبّ يا أمير المؤمنين، أحبّ إلي منه».
وكان عمر قد «استأذن في حياته [من عائشة] فأذنت له، فقال: دعوها، فإني أخشى أن تكون
لي لسلطاتي».
والغريب أن عائشة، وهي التي
كانت ترضع الرجال من قريباتها كي يحرموا عليها بزعم الرضاع كما سنلاحظ تفصيلياً
لاحقاً، صارت تتحجّب لوجود رجل غريب، هو عمر بن الخطاب، في حجرتها: رغم أن هذا
الغريب... ميت!!! تقول عائشة: «ما زلت أضع خماري وأتفضّل في ثيابي في بيتي حتى دفن
عمر بن الخطاب فيه، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبر جداراً،
فتفضّلت بعد».
وفي رواية أخرى: «كنتُ أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله (ص) وأبي (رض)، وأضع
ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر (رض)؛ والله ما دخلته إلاّ مشدودة
عليّ ثيابي، حياء من عمر (رض)».
بيتها بالذات، بيت عائشة، كان
الموضع الذي اختاره عمر لانتخاب الخليفة الجديد. «قال عمر لأهل الشورى: اجتمعوا إلى
حجرة عائشة، بإذنها، فتشاوروا، واختاروا منكم رجلاً».