الحجاب، كمعظم القضايا
الإسلامية، مسألة لا سبيل إلى استيعابها أو فهمها أو الإحاطة بكافة جوانبها.
الحجاب، في الإسلام، هو التناقض بعينه: ولا يبدو أن هنالك مقاربة عقلانية لهذه
القضية حتى الآن!
الحجاب، في مذاهب المسلمين
الخمسة، ينطبق فقط على المرأة المسلمة «الحرّة»: على كلّ مسلمة «حرّة» أن تغطي سائر
جسدها عدا الوجه والكفين. وتتشدّد بعض المذاهب في اعتبار أنه حتى الوجه والكفين
«عورة» يفضّل تغطيتهم. بالمقابل، فإن حجاب المسلمة «الأمة»، هو بين السرّة والركبة.
بل إنّ بعض المذاهب تجعل عورتها محصورة في فتحتي القبل والدبر. وتزداد المسألة
تعقيداً، إذا ما عرفنا أن بعض المذاهب - راجع ابن عابدين في حاشيته،
مثلاً - تفرض الحجاب على الشاب المسلم الجميل. فكيف يمكن حلّ تناقضات الحجاب هذه؟
باختصار شديد، نقول: إن
الإسلام، كدين ذكوري بلا منازع، يهمّه تلبية غريزتي التملّك والجنس عند
الذكر إلى الدرجة القصوى - وغالباً ما يكون ذلك على حساب الأنثى. فالأنثى الملفعة
بالسواد، الحرّة، التي لا تراها الشمس، هي التلبية المثلى لغريزة التملك عند الذكر؛
بالمقابل، فالجارية العارية، التي تنتقل من ذكر إلى ذكر، والتي تنحصر وظيفتها في
إشباع أعمق رغبات الذكر الجنسية، هي التلبية المثلى لغريزة الجنس عند الذكر. المرأة
في الإسلام أنثى، متاع، شيء - ولا شيء غير ذلك! لكن: ما هي ظروف فرض الحجاب؟ يقول
القرطبي: « لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان
ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله (ص) أن يأمرهن
بارتداء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن
تتخذ الكُنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء... وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل
نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب،
فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فنزلت الآية ».
إذاً، رغم الملائكية التي يطبع بها
كتّاب هذا العصر من الإسلاميين مجتمع الجماعة الاسلامية الأولى، فالحقيقة مغايرة
تماماً. يخبرنا ابن كثير في تفسيره: «وكان ناس من فسّاق أهل المدينة يخرجون بالليل، حين يختلط الظلام، إلى
طرق المدينة، فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيّقة، فإذا كان الليل، خرج
النساء إلى الطرق يبتغين حاجتهن. فكان أولئك الفسّاق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا
المرأة عليها جلباب، قالوا: هذه حرّة! فكفّوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها
جلباب؛ قالوا: هذه أمة! فوثبوا عليها». ويزداد الأمر سوءاً حين تعلمنا إحدى
الروايات، أنه «كان نساء النبي (ص) يخرجن بالليل لحاجتهن؛ وكان ناس من المنافقين
يتعرضون لهن فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنّما نفعله بالإماء!
فنزلت هذه الآية»
- آية الحجاب (أحزاب 59). ويؤكد ذلك الطبري، حين يقول: « يا أيها النبي قل لأزواجك
وبناتك ونساء المؤمنين لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن
فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يتعرض لهن فاسق، إذا
علم أنهن حرائر، بأذى ». وهكذا، لمّا «كانت الحرّة تخرج فتحسب أنّها أمة فتؤذى... أمرهن الله
أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمّر وجهها إلا إحدى عينيها».
ويؤكد ذلك قتادة، بقوله: « كانت
المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء ». ويضيف مجاهد: « يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن فاسق بأذى من
قول ولا ريبة ».
يذكر الزمخشري في تفسيره للآية
59 من سورة الأحزاب: «إنّ النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية
متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، فصل بين الحرّة والأمة؛ وكان الفتيان وأهل
الشطارة يتعرّضون إذا خرجن إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما
تعرّضوا للحرّة بعلّة الأمة؛ يقولون: حسبناها أمة! فأُمرن أن يخالفن بزيهن على زيّ
الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن فلا يطمع فيهن طامع؛
وذلك لقوله: «ذلك أدنى فلا يعرفن»؛ أي: أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن ولا
يلقين ما يكرهن».
وكان سفيان الثوري، يقول: «لا بأس بالنظر إلى زينة
نساء أهل الذمة؛ وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهن. واستدلّ بقوله تعالى:
«ونساء المؤمنين»؛ وقوله: «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» - أي، إذا فعلن ذلك عرفن
أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر».
وكان عمر بن الخطاب يطوف في
طرقات المدينة، فإذا رأى أمة محجبة، ضربها بالدّرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها،
ويقول: فيم الإماء يتشبهن بالحرائر؟.
حجاب نساء
النبي:
يبدو أن حجاب نساء النبي كان
يختلف عن حجاب سائر نساء المسلمين. والأرجح أنّه لم يكن يسمح لهن برؤية أحد، عدا
النبي والمحارم. فعلى سبيل المثال، تخبرنا أم سلمة، أنها مُنعت حتى عن رؤية الأعمى،
ابن أم مكتوم، الذي كان النبي يأمر النساء بأن تعتدّ عنده. تقول إنها كانت عند
النبي، هي وميمونة، «فبينا نحن عنده، أقبل ابن مكتوم، فدخل عليه - وذلك بعد أن أُمر
بالحجاب - فقال النبي (ص): احتجبن منه! قلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصر
ولا يعرفنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟». ويقول اسحق الأعمى: «دخلت على عائشة، فاحتجبت مني، فقلت: تحتجبين مني
ولست أراك؟ قالت: إن لم تكن تراني، فأنا أراك». - لكنها لم تفسّر لنا بالمقابل، كيف أرضت ضميرها برؤية كلّ هؤلاء
المبصرين في حرب الجمل؟
تقول عائشة أيضاً: «كان عتبة بن
أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة [والدة سودة زوجة النبي] منّي،
فاقبضه! فلما كان عام الفتح، أخذه سعد... فقام عبد بن زمعة، فقال: أخي، وابن وليدة
أبي، ولد على فراشه. فتساوقا إلى النبي (ص)، فقال سعد: يا رسول الله! ابن أخي، كان
قد عهد إليّ فيه. فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه! فقال رسول
الله (ص): هو لك يا عبد بن زمعة؛ ثم قال النبي: الولد للفراش، وللعاهر الحجر! ثم
قال لسودة بنت زمعة، زوج النبي (ص): احتجبي منه! لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها
حتى لقي الله».
كيف نزلت آية
الحجاب: تناقضات!
كما سبق وأشرنا، فإنّ عمر بن
الخطاب، كان يقول للنبي: «أحجب نساءك! فلم يكن رسول الله (ص) ليفعل. فخرجت سودة بنت
زمعة، زوج رسول الله (ص)، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك
يا سودة! حرصاً(!!!) على أن ينزل الله الحجاب... فأنزل الله الحجاب».
بالمقابل، ثمة رواية أخرى
منقولة عن عائشة، تقول: «كنت آكل حيساً مع النبي (ص) في مقب، فمرّ عمر فدعاه فأكل،
فأصابت اصبعه اصبعي، فقال: حس! أو: أوه! لو أطاع ما رأتكن عين! فنزل الحجاب». ويدعم ذلك ابن عبّاس، فيقول: «نزل حجاب نساء رسول الله (ص) في عمر:
أكل مع النبي (ص) طعاماً، فأصابت يده بعض أيدي نساء النبي، فأمر بالحجاب».
هنالك رواية بطلاها عمر بن
الخطاب وزينب بنت جحش هذه المرّة، تقول: «روي أنه مرّ [عمر بن الخطاب] عليهن [نساء
النبي] وهن مع النساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتن، فإن لكنّ على النساء فضلاً،
كما أن لزوجكن على الرجال الفضلّ! فقالت زينب (رض): يا ابن الخطاب! إنّك لتغار
علينا والوحي ينزل في بيوتنا (كذا)! فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى نزلت».
رواية أخرى، أكثر عمومية، تقول: «إنّ عمر بن الخطاب
كان يحب [كذا] ضرب الحجاب عليهن [نساء النبي] محبّة شديدة، وكان يذكره كثيراً،
ويودّ أن ينزل فيه؛ وكان يقول: لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين! وقال: يا رسول الله،
يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فنزلت».
مع ذلك، فإنّ حكاية زواج النبي من زينب بنت جحش وبعض
الثقلاء الذين استمرّوا في جلوسهم طمعاً في الطعام، هي أكثر الحكايا تداولاً في
التراث الإسلامي، كسبب لنزول آية الحجاب. يقول أنس: «لمّا أصبح رسول الله عروساً
بزينب [بنت جحش]، دعا القوم، فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي منهم رهط عند النبي
(ص)، فأطالوا عنده القعود. فقام رسول الله، فخرج، وخرجت معه، حتى جئنا عتبة حجرة
عائشة. ثم ظن أنهم خرجوا، فرجع، ورجعت معه، حتى دخل بيت زينب. فإذا هم قعود. ثم ظنّ
أنهم خرجوا، فرجع ورجعت معه؛ فإذا هم قد خرجوا. فضرب بيني وبينه ستراً، ونزل
الحجاب... [وكان ذلك] سنة خمس [للهجرة]».
لكن نساء النبي لم يكن يحتجبن من العبيد والمكاتبين،
رغم أن هؤلاء لم يكونوا فاقدين لقدراتهم الجنسية. يقول ابن سعد في طبقاته:
«نساء النبي كن لا يحتجبن من المملوكين والمكاتبين، فإذا اعتقوا [كذا] احتجبن منهم». ونعرف أيضاً أن «عائشة (رض) أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان:
إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت، فأنت حرّ».
بالمقابل، فقد كانت تحتجب من الحسن بن علي؛ ولما بلغ ابن عباس ذلك، قال: «إن رؤيته لها لحلّ».
إذن،
نؤكد ثانية أن مسألة الحجاب في الإسلام، مسألة طبقية فحسب: أحرار وعبيد، زوجات
وجوار. - هذا كله كان في قرن النبي، الذي قيل إنه كان أفضل القرون!!!.
من الذين أبيح لهم
الدخول على نساء النبي: المخنثون. تخبرنا مصادر كثيرة أن مخنثاً يدعى هيث، «كان
يدخل على أزواج النبي (ص)... وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة،
فدخل النبي (ص)
وهو عند بعض نسائه [-في نص
ابن
منظور، هي أم سلمة -]،
وهو ينعت لها امرأة، فقال: إنها إذا أقبلت، أقبلت بأربع، وإذا أدبرت، أدبرت
بثمان! فقال النبي (ص): لا أرى هذا يعلم ما ها هنا، لا يدخل عليكنّ هذا! فحجبوه».
لكن يبدو أنّ الأمور اختلطت بعد
حرب الجمل، وخروج عائشة على النصّ القرآني. يُذكر أنه «لمّا دخل ابن عباس بعد الجمل
على عائشة، بغير إذنها، قالت: يا ابن عبّاس، أخطأت السنّة المأمور بها، دخلت علينا
بغير إذننا... فقال لها: لو كنتِ في البيت الذي خلّفك فيه رسول الله (ص)، ما دخلنا
إلا بإذنك».
عائشة...
وتحقير النساء!
لقد ساهمت أحاديث عائشة في الإساءة إلى النساء، بكافة طبقاتهن. ولا يمكن فهم هذا الكم من الأحاديث المعادية للأنوثة
المنسوبة للنبي عبر عائشة، إلا إذا دخلنا إلى عائشة من بابها النفسي. فرغم مشاعرها
الأنثوية المشتعلة، كانت عائشة على ما يبدو، في نوع من التناقض الضدّي، تكره هذه
الأنوثة وتحقد عليها لأنها كانت تقف حائلاً بينها وبين تحقيق مطامحها المادية -
السلطوية. وربما أنّ الندم الذي أطاح بها، بعد أن خسرت معركة الجمل، انعكس في
دواخلها رغبة عارمة في التشدّد على الأنوثة، لأنها في لاوعيها، على ما يبدو، كانت
مسكونة بعقدة الدونية الأنثوية، التي تمتصها الأنثى في المجتمع الذكوري بطواعية
مخيفة، والتي تتجلى في الاعتقاد بأن المرأة لا تضع يدها في شيء إلا أفسدته.
رغم أن تجاوزات عائشة في مراحل
حياتها المختلفة ترجح على تجاوزات كلّ نساء جيلها وتزيد؛ نجدها تقول: «لو أدرك رسول
الله (ص) ما أحدث النساء، لمنعهن المساجد، كما منع نساء بني إسرائيل»؛ وفي رواية أخرى، تقول: «بينما رسول الله (ص) جالس في المسجد، إذ دخلت
امراة من مزينة، ترفل في زينة لها، في المسجد؛ فقال النبي (ص): يا أيها الناس،
ارفعوا نساءكم من لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإنّ بني إسرائيل لم يلعنوا حتى
لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد».
تنسب عائشة للنبي حديثاً آخر،
مفاده: «لا خير في جماعة النساء إلا في مسجد أو جنازة»
- لا تذكر هنا ركوب الجمل ومحاربة الخليفة؛ لكنها قد تكون مشمولة بهذا الحديث على
اعتبار أنها أخرجت أكبر كمّ من الجنازات في عصرها؟!
البنات، بحديث آخر تزعم عائشة
أن النبي قاله، بلاء: «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن حجتهن، كن له ستراً من النار».
تنسب عائشة للنبي حديثاً آخر،
يحطّ من قيمة المرأة حتى الحضيض، يقول: «المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وهي
يستمتع بها [كذا] على عوج فيها». لذلك، فهو يقول، كما تزعم: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة
أن تسجد لزوجها، ولو أنّ رجلاً أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، ومن
جبل أسود إلى جبل أحمر، لكان نولها أن تفعل».
تروي عائشة، أنه كان لها غلام
وجارية، فأرادت أن تعتقهما، فذكرت ذلك للنبي، فقال لها: «ابدئي بالغلام قبل
الجارية».
رغم خروجها على عثمان وعلي،
حجّها دون إذن الخليفة، وحرب جملها الشهيرة، فهي تصرّ على أنّ النبي قال: «لا يصلح
للمرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم لها». وتزعم أيضاً أنّه قال للنساء: «عليكن بالبيت فإنه جهادكن». وأخيراً فهي تورد حديثاً تنسبه للنبي، يتناقض بالكامل مع تصرفاتها،
يقول: «أيّما امرأة مؤمنة (؟) وضعت خمارها على غير بيتها، هتكت الحجاب بينها وبين
ربّها»!
رضاع الكبير،
والدجاجة التي أكلت... الآية؟!
امرأة من نمط عائشة، يستحيل
عليها أن تجاهد في بيتها، وأن لا تهتك الحجاب بينها وبين ربّها. ومن هنا، جاءت
أسطورة رضاع الكبير، مخرجاً ممتازاً، أتاح لها فرصة لقاء من تشاء، تحت مظلة شرع
مطاطية.
تقول إحدى الروايات، شارحة
أسطورة رضاع الكبير: «كانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات
[بحيث يحرم عليها]؛ وبهذا قال الشافعي وأصحابه». و «كانت عائشة تفتي بهذه الفتيا. أخبرني سالم أنه دخل على أم كلثوم
بنت أبي بكر لترضعه خمس رضعات، فأرضعته رضعتين أو ثلاثاً، فلم يدخل عليها. وأبى
أزواج النبي (ص) أن يأخذن بها، وقلن: إنما هي رخصة من رسول الله (ص) لسهلة بنت سهيل». وسالم هذا هو «سالم بن عبد الله بن عمر».
يبدو أنّ سالماً هو محور كلّ
هذه الأسطورة، فقبل أن تطلب عائشة إرضاعه من أم كلثوم كي يحرم عليها، كانت له
أسطورة أخرى مع سهلة بنت سهيل في موقف مشابه؛ والسند، كالعادة، عائشة: «جاءت سهلة
بنت سهيل إلى النبي (ص)، فقالت: يا رسول الله! إنّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول
سالم، وهو حليفه! فقال النبي (ص): أرضعيه! قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم
رسول الله (ص)، وقال: قد علمت أنه رجل! وزاد عمر في حديثه: وكان قد شهد بدراً. وفي
رواية ابن أبي عمر: فضحك رسول الله (ص)».
وفي رواية أخرى، عن عائشة
أيضاً: «أنّ سالماً، مولى أبي حذيفة، كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت، تعني،
ابنة سهيل، النبي (ص)، فقالت: إنّ سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا،
وإنّه ليدخل علينا، وإني أظن أنّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً! فقال لها النبي
(ص): أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة. فرجعت، فقالت: إني قد
أرضعته!!! فذهب الذي في نفس أبي حذيفة».
وفي
رواية، تقول سهلة: «إنّ سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ
الرجال، وعلم ما يعلم الرجال. قال: أرضعيه!!! تحرمي عليه»؛ وفي نص آخر، يقال إن سهلة قالت للنبي: «إنه لذو لحية؟! فقال:
أرضعيه!!! يذهب ما في وجه أبي حذيفة».
في رواية منقولة عن عائشة، نحظى
بتفاصيل إضافية: «أتت سهلة بنت سهيل بن عمرو، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة، رسول
الله (ص)، فقالت: إنّ سالماً مولى أبي حذيفة يدخل علينا، وأنا فضل!!!، وإنّا كنا
نراه ولداً، وكان أبو حذيفة تبناه، كما تبنّى رسول الله (ص) زيداً، فأنزل الله
«ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله». فأمرها رسول الله (ص) عند ذلك أن ترضع سالماً،
فأرضعته خمس رضعات، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبلغ ذلك عائشة، فكانت تأمر
أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبّت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان
كبيراً!!! خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي (ص) أن يدخلن
عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس، حتى يرضع من المهد، وقلن لعائشة؛ والله ما
ندري! لعلّها كانت رخصة من رسول الله (ص) لسالم ما دون الناس!». ويضيف نصّ آخر تفصيلاً هاماً، يقول: «إن عائشة زوج النبي (ص)، كان
يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها». في رواية أخرى، نجد النبي يقول لسهلة: «فأرضعيه عشر رضعات ليدخل عليك
كيف شاء، فإنما هو ابنك! فكانت عائشة تراه عامّاً للمسلمين، وكان من سواها من أزواج
النبي (ص) يرى أنّها كانت خاصة لسالم مولى أبي حذيفة، والذي ذكرت سهلة في شأنه،
رخصة له». وفي نصّ، يقال: «كانت رخصة لسالم». بالمقابل، تقول أم سلمة: «أبى سائر أزواج رسول الله (ص) أن يدخلن
عليهن أحد بهذا الرضاع؛ وقلن: إنما هذا رخصة من رسول الله (ص) لسالم خاصة!!! وعائشة
أخذت بذلك من بين أزواج النبي (ص)». وكانت أم سلمة تقول لها: «إنه ليدخل عليك الغلام الأيفع!!! الذي ما
أحب أن يدخل عليّ! فعلمت عائشة: أما لكِ في رسول الله أسوة حسنة؟! قالت: إن امرأة
أبي حذيفة، قالت: يا رسول الله، إنّ سالماً يدخل عليّ، وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة
منه شيء! فقال رسول الله (ص): أرضعيه حتى يدخل عليك».
هنا، لا بد أن نتساءل: هل يعقل
أن تكشف امرأة عن نهدها لرجل بالغ غير محرم بالنسبة لها، في حين أنّ الإسلام يحرّم
على المرأة كشف حتى شعرها على الرجل الغريب؟ وأي ذكر هذا الذي يمص نهد امرأة بالغة،
في مجتمع مسكون بالجنس، دون أن تتحرك مشاعره أو يحرك مشاعرها؟.
من أكل الآية؟
لكن عائشة لا تكتفي بما تذكره من حديث نبوي لتبرير
فعلتها في إدخال «الغلمان اليافعين عليها» عبر مصّهم لنهود أخواتها وبنات أخوتها،
بل تجد للمسألة بعداً قرأنياً، فتزعم أنه «أنزل في القرآن [آية تقول] «عشر رضعات
معلومات»، فنسخ من ذلك إلى خمس، وصار إلى خمس رضعات معلومات. فتوفي رسول الله (ص)
والأمر على ذلك... وبهذا كانت عائشة تفتي وبعض أزواج النبي (ص)، وهو قول الشافعي
واسحق. وقال أحمد بحديث النبي (ص): لا تحرم المصّة ولا المصتان؛ وقال: إن ذهب ذاهب
إلى قول عائشة في خمس رضعات، فهو مذهب قوي؛ وجبن عنه أن يقول فيه شيئاً! وقال بعض
أهل العلم من أصحاب النبي (ص) وغيرهم: يحرم قليل الرضاع وكثيره إذا وصل إلى الجوف!
وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ووكيع وأهل
الكوفة...».
تؤكد عائشة وجود هذه الآية في
القرآن، فتقول: «كانت فيما أنزل الله عز وجل من القرآن: عشر رضعات يحرمن. ثم نسخن
بخمس معلومات يحرمن. فتوفي النبي (ص) وهن مما يقرأ من القرآن». - فأين ذهبت هذه الآية الهامة للغاية؟!
تقول عائشة: «لقد نزلت آية
الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (ص)
وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها». وفي نص آخر: «لقد أنزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشراً، فكانت في ورقة
تحت سريري في بيتي، فلمّا اشتكى رسول الله (ص)، تشاغلنا بأمره، ودخلت دويبة لنا،
فأكلتها». من ناحية أخرى، يقول ابن حزم: «وهذا حديث صحيح، وليس على ما ظنوا، لأن
آية الرجم إذا نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله (ص)، إلا أنّه لم يكتبها نسّاخ
القرآن في المصاحف، ولا أثبتوا لفظها في القرآن».
بالمقابل، فالزمخشري،
الذي ينتمي إلى التيار المعتزلي العقلاني الذي انقرض في الإسلام - ربما لأنه
عقلاني؟ - يرفض المسألة برمتها، فيقول: «أمّا ما يُحكى أنّ تلك الزيادة [في القرآن]
كانت في صحيفة في بيت عائشة (رض) فأكلتها الدواجن، فمن تأليفات الملاحدة والروافض». لكن الهامش الذي يفسّر النص، يرفض مزاعم الزمخشري، إذ يقول: «بل
راويها ثقة غير متهم. قال ابراهيم الحربي في الغريب: حدّثنا هارون بن عبد الله أن
الرجم أُنزْل في سورة الأحزاب، مكتوباً في خوخة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها. وروى
أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة، كلّهم من
طريق محمد بن اسحق بن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة، وعن عبد الرحمن بن القاسم عن
أبيه عن عائشة، انتهى! وكأن المصنف منهم أنّ ثبوت هذه الزيادة يقتضي ما تدعيه
الروافض: أنّ القرآن ذهب منه أشياء، وليس هذا
بلازم، بل هذا مما نسخت تلاوته
وبقي حكمه، وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ».
من ناحية أخرى، فعمر بن الخطاب، في روايات كثيرة، يدعم ما تقوله عائشة، حين يتحدّث عن وجود آية الرجم،
التي أسقطت من القرآن، والتي يرى أبي بن كعب أنها كانت موجودة في سورة الأحزاب؛ فقد
قال: «كم تعدّون سورة الأحزاب؛ قلت [زر]: ثلاثاً وسبعين آية! قال: فوالذي يحلف به
أبي بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم».
لكن عائشة لم تكتف بادعاء سقوط
آية الرضاع من القرآن فحسب، بل ادعت ايضاً أن بعض آياته تختلف في محتواها عن القرآن
المتداول حالياً؛ يقول أبو يونس، مولى عائشة: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، ثم
قالت: إذا بلغت هذه الآية، فآذني: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله
قانتين»؛ فلما بلغتها، آذنتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى
وصلاة العصر وقوموا لله قانتين»؛ قالت عائشة: سمعتها من رسول الله (ص)».
وروى عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: «كانت سورة
الأحزاب تقرأ في زمن النبي (ص) مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف، لم نقدر إلا ما
هو الآن»
- أي: ثلاث وسبعون آية. وروت حميدة بنت أبي يونس: «قرأ عليّ أبي، وهو ابن ثمانين
سنة، في مصحف عائشة! إن الله وملائكته يصلّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلّوا
عليه وسلّموا تسليماً. وعلى الذين يصلّون الصفوف الأولى. قالت: قبل أن يغيّر عثمان
المصاحف».
من ناحية أخرى، تذكر عائشة أنّ
رجلاً «قام من الليل، فرفع صوته بالقرآن، فلما أصبح، قال رسول الله (ص): يرحم الله
فلاناً، كائن من آية أذكرنيها، كنت أسقطتها». وتؤكد عائشة أيضاً أنّ النبي كان كثير النسيان، فتقول: «إن النبي (ص)
كان إذا أشفق من الحاجة، يعني ينساها، ربط في خنصره أو في خاتمه الخيط».